مؤيد الطيب
عندما نتحدث عن الشعر الشعبي فنحن نتحدث عن الجمال في اللغة العامية، روعة اللحن والموسيقى بين طيات أبياته وهو يتغنى بأجمل الصور وأكثرها صدقاً وقرباً إلى القلب قبل العقل، شعراً ينطلق ويرجع دائماً إلى حياتنا اليومية بكل ما ترتسم بهِ من ممارسات، وبكل ما يحمله من أسماء في سمائهِ المشرقة حباً.
لكن ومنذ الحرب الأخيرة على العراق وماتلاها من أحداث أخذت بإزهاق أرواح الكثيرين من أبناء بلدنا، فضلاً عن أيام حزن طويل خيم الإرهاب علينا فيها، تلتها حرب داخلية بين المواطن ونفسه والمواطن وأخيه، حروبا أثرت سلباً وللأسف على الكثير من محطات العشق فينا، لتنعكس في مخيال شعراء كُثر، ولم ينج من هذه اللوثة سوى البعض ممن يحترمون ما تسطره أقلامهم على صفحات الورق الأبيض، وأقصد بـ"البعض" القلة ممن احتضنوا الشعر والأدب والموسيقى والفن والرسم والسينما وكل مفاصل الإبداع ليرسموا حلم الوطن القادم، حلم عصفور تلحف بريش ملون.
أتحدث عن الأدب بمجمله، لكني أحاول تسليط الضوء الآن على مجال الشعر الشعبي، وكشاعر ومراقب لهذا المجال العتيد والمعروف بصبغته الطرية والمترفة، والمرتبطة باحساس العامة والخاصة من الناس، صغيرهم وكبيرهم، نرى دائماً انعكاس هذا العشق عليهم، ولّه يكاد لا يزاحمه وله آخر، منطلقاً من لغة عربية بلهجة تقترب من شغاف القلب وتلامس الروح.
لكن ما يؤسفني ويؤسف الكثيرين من مختصي هذا اللون من الأدب وعشاقه، ان بعض شعرائه وخاصة الشباب منهم، المتأثرين بأجواء حروب طويلة، باتوا اليوم يدسون السم الأسود في دم القصيدة بوعي أو دونه، متناسين أن الشعر لغة ورسالة، تحاول صناعة الجمال من الخراب، وليس العكس، شعراء تأثروا كثيراً بما عاشوه من بؤس صار سمة لشعرهم، ليكحلوا قصائدهم بلون الدم القاني، جراء تعرضهم لويلات حروب ونزاعات طويلة، سواء أكانت تلك النزاعات دينية او سياسية، حتى بدأنا نلحظ بين طيات قصائدهم نزق الحرب والثأر والغضب حتى وإن كان محاكاة لرسائل نابعة من فراغ لا يعرف حتى الشاعر نفسه ماهيتها، أستطيع تسميتها "آيديولوجيا القصيدة"، لكنه مجرد عباءة يتصور الشاعر فيها أنها لباسه الذي سيصل به لعنان السماء في قلوب وعقول محبي الشعر، متناسياً إن محبي قصائده تلك هم المحيطون به في بيئته ومحيطه الجغرافي، وأنه بهذه العبارات المغمسة بالسم، كمن يطلق سهمه إلى قلب جمالنا الأبدي.
وهنا نلاحظ تأثيراً ثانياً، وهو كما أشرت، البيئة او المكان الذي يعيش فيه الشاعر، فلكل واحدٍ فيهم منطقة ينحصر بها، كأن تكون مدينته أو محافظته التي يرجع إليها في فكرته عن الشعر، أو عن الواقع ألذي يستند له في الكتابة، ويأطره بمايحيط به من تأثيرات خارجية من واقع المكان وطريقة العيش فيه، ضمن نطاق رقعته المرتبطة سلباً أو ايجاباً، حسب واقعها، بطريقة تفكيره، وأسميها هنا "جغرافيا القصيدة".
وطبعاً آيديولوجيا القصيدة وجغرافيتها يسلط عليهما تأثير عامل مهم، إلا وهو الزمن، وبمعنى أوضح "تأريخ القصيدة"، أي الزمن الذي كتب فيها الشاعر قصيدته، ولو قارنا ما بين قصائد الستينيات أو السبعينيات أو ما سمعنا وقرأنا من العقود السالفة، لوجدنا فرقاً شاسعاً في نوعية اختيار المفردة وجمالية الصورة الشعرية ورومانسية القصيدة وشفافية الكلمة المنظومة في الشعر، وحرص الشاعر على إتقان الكتابة من حيث الشكل والمعنى، وهنا لا أريد أن أضطهد الشعراء الشباب وإتهامهم جميعاً بتهمٍ مثل الجحود في المفردة ووحشية الصورة الشعرية وسوداوية النظرة العامة للحب، وقسوة الكلمة، لكن هذا أصبح الطابع العام للقصيدة حالياً، ربما ليس للجميع، لكنه مشخص عند الأغلبية، ومن الصعب أن يستلهم الناس شعراً يحاول الشاعر من خلاله تشبيه الحب بالحرب، أو يصف عيني حبيبته بالقنابل والبنادق وما شابهها من الأسلحة، أو يصف شعرها بالسيوف ويصف عاذليه بأعداءٍ له، عداؤه معهم طائفي، وما إلى ذلك من مخلفات السنوات الأخيرة، والأكثر أسفاً هو أن ينساق بعض الشعراء إلى تجسيد الطائفية والحرب في قصائدهم والدعوة لها أيضاً، والتغني بها كراية نصر أو ميزة تميزه عن أقرانه من الشعراء.
هذا كله واكثر بدأت أراه يُصبح اللون الواضح للشعر الشعبي، بعيداً عن كل ما تحمله اللغة من جمال، وكأن لا شيء حولنا، سوى الموت!.
http://www.alsabaah.com/ArticleShow.aspx?ID=34333
شكرا لورقتك التوثيقية المفيدة
ردحذفصاحب الزمن الجميل